تحديات تواجه مدرسة المستقبل
تمهيد
نظراً للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية التي يشهدها عالم اليوم، يجب أن تشهد المرحلة المقبلة وضوحاً في النظرة المستقبلية للتعليم، وباتجاه عالم اليوم إلى التوغل أكثر في عصر المعلومات، ومع وجود شبكات الاتصال عن بُعد بما لديها من إمكانات في تغيير طبيعة كل من التعليم والتعلم وفي جميع جوانب التربية، وإمكانية الإفادة من استخدام الاتصال عن بعد في جميع المجالات، أصبحت التربية في عالمنا المعاصر تواجه كثيرا من التحديات التي تتطلب بذل الجهود الصادقة لمواجهتها بأسلوب علمي سليم يحدد نوعية تلك التحديات، وكيفية التعامل معها، ومن هذه التحديات، قضية الدمج مع سائر العلوم الأخرى، وإعداد معلم التربية الإسلامية، و مدرسة المستقبل ، لمواكبة التسارع التكنولوجي، والانفجار المعرفي.
التحدي الأول: قضية دمج القيم مع سائر العلوم
ما كان من انفصال بين القيم والمعرفة في حياة الإنسان منذ بدء الخليقة، ولكن طرح مفهوم الدمج كتحد رئيس يواجه التربية إنما هو محاولة لإرجاع الأمر إلى نصابه، ونفي الازدواجية الكائنة في مناهج التعليم، فمن حكمة الخالق البالغة أن بدأ رسالة الإسلام بإيضاح دور القيم في سلوك الإنسان، كما جاءت في قصة أول جيل من أجيال البشرية (ابنَي آدم) قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 28]. ولم تكن القرابين إلا نتيجة المعرفة المكتسبة لكل من الأخوين، ولكنها ارتبطت عند الثاني بالقيم حين قال: ﴿إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، فالتقوى عاصمة من تحويل العلم والمعرفة إلى سلطة شر، ولكنها انفصلت عن القيم عند الأول الذي قال لأخيه: ﴿لأَقْتُلَنَّكَ﴾ معتبرا أن الخبرة المعرفية كافية لقبول العمل دون اعتبار قيمة التقوى والخوف من الله. بل إن الأمر قد سبق هذا في نموذج آدم عليه السلام حين نزل من الجنة لمخالفته أمر الله رغم قوة تكوينه المعرفي، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة:31]، فكانت غاية نزوله إعادة تصفية جهاز القيم عن طريق التربية.
وقد طبع النموذجان السالفان مسيرة البشرية إلى قيام الساعة، ولذلك لم تفتأ التربية الإسلامية تعمل على ترسيخ الفهم الصحيح الذي يربط المعرفة بالقيم، وتحذر من الفهم الخاطئ والسائد الذي يفصل بينهما لما له من آثار سلبية في الحال والمآل، ولذلك ختمت رسالات السماء، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت أول آية نزلت فيها قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]. وهذا الربط في الرسالة الخاتمة بين القراءة واسم الله (الربّ) الذي يرتبط في البعد الاصطلاحي بالتربية، يجعل الإسلام لا يقر بفائدة أي علم منفلت عن القيم.
والدمج في مفهومه العام هو الجمع بين حقلين أو عنصرين -أو أكثر- بهدف الحصول على حقل، أو عنصر جديد،. وأما المقصود بالدمج في التربية الإسلامية، فهو إدماج القيم الإسلامية في المواد الدراسية المختلفة، مع استخدام خبرات تعليمية غير نمطية في التدريس، وكذلك استعمال أساليب التقويم الشاملة وعدم الاقتصار على الاختبارات التحصيلية. ويوضح الصمدي أهمية مفهوم دمج القيم في مواد المقالة بقوله: “إدماج القيم الإسلامية في المواد التي تدرس في مراحل التعليم المختلفة، ولاسيما في التعليم ما قبل الجامعي، حيث تتشكل شخصية النشء المسلم ذهنياً ووجدانياً وسلوكياً، لأن القيم الإسلامية هي الركيزة التي تقوم عليها حياة المسلم، كما حددها الوحي الإلهي، في علاقته بنفسه ومحيطه وخالقه سبحانه، وهي كذلك قيم إنسانية تهدف إلى صلاح البشر كافة.”
ويتزايد شعور الإنسان في عالم اليوم بمدى جناية فصل القيم عن التعليم، وقد سُميت هذه الظاهرة بالازدواجية، وهي في عمومها تُبدي الانفصام الحادث بين القيم النابعة من الدين، وبين العلم، ولقد وضعت بذور نبتة الازدواجية في بلاد الغرب، فكما يقول الشارف: “فالغرب هو الذي دعا في نهاية القرن التاسع عشر إلى ضرورة الفصل بين التعليم والدين، بل صدر مرسوم بذلك في 23 فبراير 1923م، وبصدوره اختفت من البرامج الرسمية كل الواجبات تجاه الإله.” وقد أحدث فصل الدين عن الحياة -ومنها التعليم- انعكاسات تربوية سلبية خطيرة على واقع العالم بما فيه الغرب، بل وأنتج الانفصال عن القيم ويلات كثيرة عانى منها المجتمع الدولي مثل ما حدث في هيروشيما ونجازاكي.
أما التعليم في بلاد العالم الإسلامي، فقد نشأ مغايراً، فالأصل فيه القيم، وأنه ما عرف الازدواجية إلا بعد اقتدائه بالغرب، فمن الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز، إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً، وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه في شتى أقطار العالم الإسلامي فَعَلاَ مرةً وسَمَقَ، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر -على كل حال- يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الغربية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هذا العلم الأوروبي، وإضافة لما لحق بالتربية الإسلامية من زخم على مستوى الإنتاج المفهومي والتنظير الفكري لها إزاء فقر بارز على مستوى السلوك. ومن هنا بدأ صراع صامت بين أسلوب التعليم القديم وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من بلاد الإسلام أن تُترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.
وتقتضي تربية المستقبل علاج ظاهرة الازدواجية، وما يتفرع منها من أمراض وعلل، وذلك من خلال صياغة مشروع متكامل لدمج القيم الإسلامية في مناهج المواد الدراسية المختلفة، وهذا يتطلب وضع تصور جديد لفلسفة التربية، وبناء الأهداف التعليمية المكافئة لتحديات المستقبل، بل واستحداث خبرات تعليمية وأساليب تقويمية. فالانتقال من الواقع الآني إلى تربية المستقبل يستلزم تنقية مناهج التربية في بلدان العالم العربي والإسلامي مما لحق بها من تغريب في المحتويات، ويسبق ذلك التخلص من النظريات الفكرية الغربية القائمة عليها مناهجنا، وذلك حتى نتجنب الخطر الفكري المُهدد لمعتقدات المتعلمين، والتسيب الاجتماعي الذي يهدد هوية الأجيال الناشئة، فنتخلص من ظاهرة الازدواجية في المناهج التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وخاصة أن طبيعة الإسلام شاملة شمول الحياة، وطبيعة التربية الإسلامية شاملة لجميع ألوان المعرفة وحقولها.
والفرق بين ما طرحه الفرحان وآخرون معه، وبين ما قام به الصمدي، أن الأوائل تكلموا عن ملامح مشروع متكامل لعملية الدمج، فتعرضوا لأهمية وضع تصور جديد لفلسفة التربية، وبناء الأهداف، والخبرات التعليمية، والأساليب التقويمية، وتنقية المحتوى مما لحق به من تغريب، والتخلص من النظريات الغربية التي تُبنى عليها المناهج، بينما ركز الصمدي على تطوير مشروع -سيتضح فيما بعد بالتفصيل- لصياغة المنهج التعليمي في ضوء القيم الإسلامية من خلال المراحل الآتية: صياغة الأهداف العامة لمرحلة التعليم الأساسي في ضوء القيم الإسلامية، وتحديد الكفايات التعليمية المتوقع أن يكتسبها المتعلم في المرحلة الأساسية، وتحديد مواصفات المتعلم في نهاية هذه المرحلة بناء على القيم والكفايات المحددة، وتحديد المواد الدراسية المحققة لما سبق من مواصفات، وتحديد الأهداف الخاصة والمحتوى التعليمي لكل مادة دراسية، ورسم سياسة عامة لطرق ووسائل التدريس والتقويم والأنشطة التعليمية، وإعادة صياغة برامج تكوين المدرسين.
فاهتم الفرحان ببناء القاعدة الفكرية لمشروع الدمج، بينما انصب جُل اهتمام الصمدي على نموذج تطبيقي في خطوات لكيفية دمج القيم في المقررات الدراسية. أما ما طرحه العلوي فهو يقع بين ما تناوله الفرحان، وما ذهب إليه الصمدي، فهو يلفت الانتباه إلى أهمية الربط بين مرحلة التصور والتفكير، ومرحلة تطبيق السلوك في أداء المتعلم اليومي، ومن ثم يمكننا القول: أن الفرحان يمثل المرحلة الأول ببنائه للقاعدة الفكرية، وفي المرحلة الثانية يهتم العلوي بربط المجال القيمي بالأساليب التفاعلية، ثم يأتي الصمدي في المرحلة الثالثة والأخيرة ليصيغ المنهج الذي يترجم القيم إلى سلوك.
وتمثلت الازدواجية في ذلك القصور في مناهج التدريس المستعملة في العالم الإسلامي في عدم القدرة على ربط المجال القيمي لقيم الإسلام بالأساليب التفاعلية والتطبيقية الكفيلة بالانتقال بالتلميذ المسلم من مرحلة التصور والتفكير إلى مرحلة الممارسة والفعل والأداء في سلوكه اليومي. فعملية الدمج تعمل على ربط القيم بالمقررات الدراسية، ومن ثم يتلخص مفهوم دمج القيم الإسلامية في المناهج الدراسية في بث القيم الإسلامية في جميع محتويات المقررات الدراسية، ويبين الصمدي مفهوم الدمج بقوله: “يقصد بها كيفية إدماج هذه القيم الإسلامية في المقررات الدراسية المختلفة من حيث اختيار الملائم منها لكل مادة، وطرق هذا الإدماج ووسائله، والأنشطة المصاحبة لاكتساب تفاعل وجداني وعاطفي مع هذه القيم، وتحويل ذلك إلى كفايات مؤثرة في السلوك، ومؤطرة للتصورات والمفاهيم المستقبلية التي تتكون لدى المتعلم.”
ومن التعريف السابق لمفهوم دمج القيم الإسلامية في المقررات الدراسية، نستخلص أن القيم الإسلامية هي نقطة الارتكاز في العملية التعليمية، أي على القيم الإسلامية أن تتغلغل في الأهداف التعليمية سواء المعرفية، أو السلوكية، أو المهارية. فجعل القيم الإسلامية محور العملية التعليمية في مختلف المواد الدراسية يقتضي إعادة النظر في الأغراض العامة للنظام التعليمي، لأن ذلك هو المنطلق الرئيس المؤثر والموجه في المجال المعرفي والمهاري ومجال تعديل الاتجاهات والقيم وتنمية الكفايات، وكل ذلك وفق مواصفات المتعلم في مختلف مراحل التعليم.
ومعلوم أن المنطلقات العامة لنظام التربية والتعليم المرتكز على القيم الإسلامية يتحدد في أساسيات أربعة: نظرة الإسلام إلى الحياة والكون والإنسان المبنية على وحدة الخالق وحاجة المخلوقين إليه، وحاجة المجتمع إلى نظام محكم هادف متوازن يحقق فيه الإنسان مبدأ الخلافة المنوط به، وحاجات المتعلم الذي يعتبر محور العملية التعليمية، ثم الأساس المعرفي المبني على التصور الإسلامي الداعي إلى طلب العلم والتوسع فيه بمختلف السبل والطرق والوسائل. إن هذه الأسس الأربعة تعتبر المنطلق الأساسي لإعادة صياغة الأهداف الكبرى للنظام التعليمي، وعلى أساسها تُبنى الأهداف الخاصة والإجرائية.
وصياغة المنهج التعليمي في ضوء القيم الإسلامية -أي دمج القيم الإسلامية في المناهج التعليمية- لا يختلف عن بناء أي منهج تعليمي، حيث أن بناء وصياغة المنهج التعليمي لا يخرج عن كونه إجراء وتقنية توضح خطوات بناء المنهج، والفرق بين صياغة المنهج التعليمي في ضوء القيم الإسلامية وغيره من مناهج يكمن في اعتبار القيم الإسلامية محور الارتكاز، ومنها يكون منطلق بناء المنهج. “ونعتقد أن الأهم بالنسبة لبناء المناهج التعليمية هو الانطلاق من القيم الإسلامية، سواء باعتماد بداغوجيا الأهداف أو بداغوجيا الكفايات. وبناء المناهج التعليمية -في مرحلة التعليم الأساسي- في ضوء القيم الإسلامية يمر بالمراحل التالية:
أولاً: صياغة الأهداف العامة لمرحلة التعليم الأساسي في ضوء القيم الإسلامية الموجهة للنظام التعليمي العام.
ثانياً: تحديد الكفايات التعليمية المتوقع أن يكتسبها المتعلم في المرحلة الأساسية وهي: الكفايات الذاتية، والكفايات التواصلية، والكفايات المنهجية، والكفايات التكنولوجية.
ثالثاً: تحديد مواصفات المتعلم في نهاية هذه المرحلة بناء على القيم والكفايات المحددة على مستوى القيم، وعلى مستوى الكفايات.
رابعاً: تحديد المواد الدراسية المحققة لما سبق من مواصفات حسب أهميتها: وذلك وفق معيارين اثنين، أولهما: تحديد المواد المُرسخة للقيم الإسلامية والوطنية بصفة مباشرة، وكذلك المواد الحاملة للقيم الإسلامية بصفة غير مباشرة.
خامساً: تحديد الأهداف الخاصة والمحتوى التعليمي لكل مادة دراسية.
سادسا: رسم سياسة عامة لطرق ووسائل التدريس والتقويم والأنشطة التعليمية.
سابعاً: إعادة صياغة برامج تكوين المدرسين.
ومما سبق، بيتضح مدى ارتباط العلوم بشتى فنونها، كإنتاج للمعرفة في المنظور الإسلامي بالقيم، وترتقي شؤون الحياة أكثر حين يتجاوز إنتاج المعرفة منطق السيطرة على الكون وإخضاعه لسلطة الإنسان إلى العلم بالخالق وخشيته، ومن ثم تضع نتائج المعرفة قدم الإنسان على سكة الترقي نحو القيم المطلقة من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان. لأنه حين تقف نتائج العلوم عند حدود سيطرة الإنسان على الكون بمعزل عن القيم، فإن هذه السلطة تتحول إلى توهم السيطرة على الآخر، وتوهُّم السيطرة تجلى في عقلية قارون حين قال مزهوا بممتلكاته ﴿إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]. فكان التعقيب الإلهي ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]. فالعلم الذي اكتسبه قارون ضخّم من أنانيته فتوهم القدرة والسيطرة، فتحول العلم في هذه الحالة من مدرج مفتوح للترقي نحو القيم المطلقة، وانحبس في كنف المادة مما ينافي طبيعة العلم ذاته، فالمادة وسيلة للعلم وليست غايته ومقصده.
التحدي الثاني: إعداد المعلم
إن المعلم هو العنصر الفاعل حقا في العملية التربوية، فلذلك لابد أن تكون تربية الأجيال القادمة على يد معلم قادر على تربيتهم تربية خلاّقة تفجر طاقات المتعلم الكامنة، وتعمل على تنمية قدراته الإبداعية والابتكارية. كما يجب التخلي عن استراتيجية التكيف مع متطلبات الواقع في إعداد المعلم، والتوجه نحو استراتيجية جديدة من شأنها أن تُنمي القدرة على التغيير حتى ينجح في تحقيق تربية مستقبلية نوعية. “كما أن المعلمين معنيون كذلك بضرورة تحديث معارفهم ومهاراتهم وأساليب تعليمهم واستراتيجياته استجابة للمستجدات والمتغيرات المتنوعة والسريعة عن طريق عمليات التدريب المستمر، ليكتسبوا القدرة على استخدام المنحى التكاملي المتعدد الوسائط في العملية التعليمية، والقادر على توظيف طرائق التعليم والتعلم جميعها وأساليبها وتقنياتها لخدمة العملية التربوية.” إن قيادة التغيير من قبل المعلم هو السبيل والنموذج الواضح، وكذلك الأسلوب التفكير العقلاني المنظم يساعده على استشراف آفاق المستقبل، واستشعار نتائج عملية تطبيق التغيير المقترح في العملية التعليمية. وتتلخص هذه العملية في: معرفة قوى التغيير ومصادره، تقدير الحاجة للتغيير، تشخيص المشكلات التي تواجه العملية التعليمية، والسعي للتغلب على مقاومة التغيير وتخطيط الجهود اللازمة لإحداث التغيير، ومراعاة محدداته.
ولما كان التعليم يهدف -من بين ما يهدف إليه- إلى تزويد المتعلم بالخبرات والاتجاهات التي تساعده على النجاح في الحياة ومواجهة مشكلات المستقبل، وبحكم طبيعة العصر، فقد نشأت أدوار جديدة للمعلم يجب إعداده لها وتدريبه عليها، ومن أهم هذه الأدوار الجديدة ما يلي: أن المعلم لم يعد هو الشخص الذي يصب المعرفة في أذهان طلابه، وأنه المرسل الوحيد لهذه المعرفة، ولكنه أصبح الإنسان الذي يستعمل ذاته بكفاءة وفاعلية من أجل مساعدة طلابه ليساعدوا أنفسهم، فهو يسهل العملية التعليمية ولا يحدثها، يدير الموقف التعليمي، ولكن لا ينشئه، يوجه ويرشد ولا يلقن ويحفظ. ولم يعد المعلم يقتصر في استخدامه لتكنولوجيا التعليم على الكتاب أو الكلمة المطبوعة، بل أصبح عليه أن يتعامل مع تكنولوجيا التعليم الحديثة، والتي أصبحت جزءا أساسيا من المؤسسة التعليمية العصرية كمعامل اللغات وأجهزة العرض والتلفزيون والفيديو والكمبيوتر وشبكة الإنترنت. فتأثير المعلم في الطالب لا يقتصر على الجانب المعرفي فقط، ولكنه أيضاً يُعنيى بالجانب الانفعالي والحركي، أي بتكوين الاتجاهات وتنمية المهارات ليحقق النمو الشامل المتكامل للطالب. بل أصبح ينظر للمعلم أنه المصمم للمنظومة التعليمية داخل المؤسسة التعليمية، من حيث تحديد وتنظيم الأهداف والخبرات والمواقف التعليمية، واختيار أنسب الوسائط التعليمية لتحقيق هذه الأهداف، ووضع استراتيجية يمكن استخدامها في حدود الإمكانات المتاحة له داخل البيئة المدرسية، وهذا ما يحقق له النمو المرغوب فيه.
ويمكن تلخيص الأدوار المختلفة التي يفرضها استخدام التكنولوجيا الحديثة على المعلم، والتي من أهم ملامحها كونه ميسراً للعملية التعليمية Facilitator، وموجهاً للفكر Guide، ومشرفاً أكاديمياً Advisor، ورائداً اجتماعياً Social Leader ، وصاحباً لمدرسة علمية ذات توجه متميز على المستويين النظري والتطبيقي Scholar، وباحثاً Researcher، كل هذه الأدوار وغيرها جعلت من تدريب المعلمين أثناء الخدمة ضرورة ملحة لمواكبة تلك التطورات في جميع مجالات العملية التعليمية، وذلك بغية تمكينهم من إتقان الأدوار الجديدة التي ينبغي أن يضطلعوا بها. وفيما يلي نستعرض بشيء من التفصيل دور المعلم في المستقبل، والتي تشتمل على الدور التعليمي، والدور التربوي، والدور الإداري، والأدوار الاجتماعية، والدور الإنساني.
التحدي الثالث: مدرسة المستقبل
التربية هي الحياة، والمؤسسات التربوية هي وسائل إعداد الإنسان لحياته الآنية والمستقبلية، والمؤسسات التربوية ليست مكاتب توظيف مهمتها إعداد الإنسان لسوق العمل. فمن الأخطاء الشائعة اعتبار أن النظام التعليمي وعلى رأسه الجامعة هو خادم لسوق العمالة، “يعتقد أُناس أن الجامعة موضوعة في خدمة شكل من أشكال الاقتصاد في وقت محدد”. فهكذا توصف تربية وتعليم اليوم، كما يوصف عالم اليوم بأنه حاد التغير، وسريع التقلب، وإذا كانت وظيفة التربية في يومنا الحاضر هكذا، وهذا سمتها، فكيف يكون المستقبل، وكيف تكون مدرسة المستقبل، وكيف توصف طرق التدريس في مدرسة المستقبل. ومثالاً، هل ستبقى طرق التدريس كما هي، معلم يُلقي ومتعلم يَتلقى، أم يتم استحداث استراتيجيات تعليمية مكافئة لتربية المستقبل. فإذا كان الإنسان لا يعمل منفرداً في أي منشأة من منشآت الحياة، فليس من المعقول أن يتعلم وحده، ولابد من تعويده على العمل الجماعي، فالعمل الجماعي ضروري كي يألف الطالب عمله مستقبلاً. إن صيغة أفرقة التربية التي تُدعى بالإنجليزية بفريق التدريب Training-group تقوم على أن يتعلم المرء كيف يتعلم، وأن يتعلم كيف يساعد، وأن يتعلم كيف يحقق ذاته، كعضو في فريق وعضو في جماعة، وهنا يجب أن نولي أهمية كبيرة للتربية الجماعية. وبذلك ينعت آرثر مورس -في ستينيات القرن الماضي- طريقة التدريس في مدرسة الغد بقوله: “فالتدريس فيها على شكل فريق، وفي هذا النظام القائم على التعاون بين أعضاء فريق التدريس، يُهاجَم كل تقليد أو جمود في التعليم الابتدائي.”
وتطوير أساليب التقويم في مدرسة المستقبل أمر لا غنى عنه، وأن لا تعتبر الاختبارات التحصيلية هي المعيار الوحيد للتقويم، وتكون سبباً رئيساً في توجيه حياة الإنسان ومستقبله، “وخلال يوم واحد، يُقرر فيما إذا كان عمل الطالب خلال سنة كاملة يستحق شيئاً أم العكس، وفي يوم واحد يقامر الطالب -وهذه هي مصادفات الامتحان- بحظه وسنته، إنه يقامر بسبعة أو ثمانية أشهر.”
فلسفة مدرسة المستقبل:
يفترض أن تُبنى فلسفة مدرسة المستقبل على أربع دعائم رئيسة لتدعم ما يسمى مجتمع التعلم، وهو المجتمع الذي يتيح فرص التعلم وتنمية المواهب والقدرات للجميع، إذ يكون كل طالب فيه “طالب علم” وفي الوقت ذاته “مصدراً للتعلم”، وذلك بإتاحة الفرصة لكل فرد ليتعلم ما يريده في الوقت الذي يريده حيث يسعى معلم المستقبل لتحقيق وتعزيزتلك المواهب والقدرات لدى المتعلم. والدعائم الأربعة لفلسفة التعليم هي، التعلم للمعرفة: ويتضمن تعلم كيفية البحث عن مصادر المعلومات، وتعلم كيفية التعلم للاستفادة من الفرص التعليمية المتاحة مدى الحياة. والتعلم للتعايش مع الآخرين: ويتضمن اكتساب المتعلم لمهارات فهمه لذات الآخرين وإدراك أوجه التكافل فيما بينهم، والاستعداد لحل النزاع. وإدراك الصراع وتسوية الخلافات، والحوار في إطار من الاحترام والعدالة والتفاهم والسلام. والتعلم للعمل: ويتضمن اكتساب المتعلم للكفايات التي تؤهله بشكل عام لمواجهة المواقف الحياتية المختلفة وإتقان مهارات العمل الجماعي في إطار التجارب والخبرات الاجتماعية المختلفة. وتعلم المرء ليكون: وهو أن تتفتح شخصية المتعلم، وأن لا تغفل التربية المستقبلية أي طاقة من طاقات الفرد.
مفهوم مدرسة المستقبل:
مدرسة المستقبل هي مؤسسة تربوية يقودها مدير من خلال فريق تربوي مؤهل يمارس دوره تخطيطا وإدارة بمستوى من الاستقلالية يتيح تحقيق الأهداف المنطلقة من سياسة التعليم، ضمن إطار من المسؤوليات في ضوء منهج متكامل مرن، منبثق من شريعة الإسلام متوائم مع روح العصر بواسطة أحدث وأجدى طرائق التعليم التي تحقق الشراكة مع المعلم المدعومة بتقنيات التعليم الحديثة، وفي ظل نظام محكم من التقويم ومشاركة المجتمع، من أجل إعداد جيل قادر على تطوير ذاته، مؤهل لمتابعة الحضارة العالمية والمشاركة فيها.
سمات مدرسة المستقبل:
- مدرسة قيمية: تربي على عقيدة الإسلام منهجا وسلوكا لتكوين الفرد الصالح النافع لأمته ووطنه والبشرية جمعاء.
- مدرسة متعلمة: المدرسة منظمة يجب أنْ تكون متعلمة دائما، فجميع من يعمل بها يجب أنْ يتعلّم، والعلم والمعرفة ليست حكرا على زمن محدد.
- مدرسة إلكترونية: تعيد صياغة أدوار عناصر المنهج وبيئة التعلم بجهد أقل ونوعية أجود بتضمين تطبيقات رقمية في جميع العمليات المدرسية.
- مدرسة نوعية: تتبنى الجودة الشاملة وفق معايير الأداء العالي “الإتقان”.
- مدرسة تعاونية: في عمليات التعليم بين المعلمين أنفسهم، وفي عمليات التعلم بين الطلاب نحو تحقيق أهداف مشتركة.
- مدرسة فعالة: تتبنى مبدأ الفاعلية التربوية لكل شرائح المتعلمين من خلال قيادة تربوية منظمة ومنضبطة تشاركية.
- مدرسة ذاتية: تمارس صلاحياتها ومسؤولياتها التربوية والإدارية والمالية داخل المدرسة ضمن أطر عمل تتبنى قواعد العمل المؤسسي.
- مدرسة مبدعة: تسعى نحو الأصالة ضمن خيارات متنوعة تستوعب جميع فئات المتعلمين وتشجع الإبداع وتحتضنه.
- مدرسة عملية: تنتهج مبدأ “التعليم للعمل” من خلال بناء اتجاهات إيجابية وأرضية قابلة للتشكيل تمتلك مهارات أساسية.
- مدرسة مجتمعية: تتبنى الانفتاح على المؤسسات المجتمعية من خلال علاقة تشاركية داعمة للطرفين.
- مدرسة ممتعة: ضمن بيئة وعناصر تستمتع بالتعلم وتعيد صياغة المنظومة التعليمية ضمن إطار من البهجة والفاعلية.
- مدرسة آمنة: تمتلك عناصرها البشرية قدرا عاليا من المهارات الاجتماعية ضمن اتصالية تفاعلية تستوعب المواقف والخلافات.
معايير وأسس مدرسة المستقبل:
ويرتكز نموذج المدرسة المستقبلية على رؤية تتمثل في: منح المدرسة إدارة ذاتية مسؤولة، وتقديم منهج دراسي مرن من خلال أساليب تعليم وتعلم عصرية، وصياغة علاقة تشاركية مع مؤسسات المجتمع المحلي، في بيئة تقنية شبكية معلوماتية. ويتم ضبط الممارسات التربوية من خلال أطر عمل أساسية هي:
إطار المسؤولية التعاقدية: من خلال أدوات تحقق الالتزام التعاقدي بين المدرسة والجهة التعليمية، بحيث تتولى المدرسة تحديد أهدافها وأولوياتها، في نظام محاسبة فاعل، ووفق رؤية المجتمع وفلسفته التربوية.
إطار المنهج: ويتمثل في خطة عمل لتطبيق منهج متكامل ومواكب للتطور المعلوماتي بأهداف ومعايير واضحة قابلة للقياس ترتكز على المتعلم، وتتيح مرونة للمعلم في توظيف التقنية وتنوع عمليات التعليم.
إطار التقويم: من خلال بناء نظام تقويمي شامل يرتكز على أدوات تقويمية بمستويات داخلية ذاتية وخارجية عامة، ولا يقتصر على الاختبارات التحصيلية فقط.
إطار المصادر: من خلال نظام موازنة يحدد الاحتياجات ومصادر الدعم وطرق الاستثمار وأولويات الصرف.
وتمثل هذه الأطر أدوات صياغة ومساندة في تحقيق العمليات التالية: إدارة ذاتية، ومنهج مرن، وانفتاح على المجتمع، وتعلم وتعليم تعاوني. ويتم ذلك ضمن بيئة تقنية شبكية معلوماتية تختصر الجهود وتستثمر التقنية والمعرفة من خلال علاقات شبكية توفر التعبئة الكلية لتحقيق الأهداف.
ومن ثم، فإن إعداد مدرسة المستقبل وفق السمات السالف ذكرها مرهون بتطوير نوعي للعناصر المتفاعلة في المدرسة، والتي تشمل متعلما نشطا، ومعلما مُيسرا، ومنهجا مرنا، وقائدا تربويا، وبيئة فاعلة.
المتعلم النشط: يمتلك أدوات البحث قادر على النقد المنهجي والتقويم والتحليل ضمن ملكة إبداعية تتجه نحو الإنجاز، ويقدر العلاقات الإنسانية قوي في جسمه معافى في بدنه مستقر نفسيا يمتلك المهارات الحياتية ويتحمل المسؤولية.
المعلم الميسّر: يشارك المتعلمين في تعلمهم، دائم التعلم محب لمهنته متمرس بأساليب التعلم الفعالة، مرشد لطلابه إلى مصادر المعرفة، يتجه نحو تحقيق الأهداف التربوية ويقوم أداءه وتحصيل طلابه.
المنهج مرن: ينطلق من سياسة التعليم ويتكامل مع المجالات الدراسية والتطبيقات الحياتية، متوازن وتطبيقي ضمن بيئة تفاعلية، شمولي يوظف تقنية المعلومات، متجدد يلبي احتياجات المستقبل ويتمركز حول المتعلم.
القائد التربوي للموقف التعليمي: صاحب رؤية مستقبلية يمتلك مهارات التخطيط وقيادة الفريق والتقويم والمتابعة، ومكون للعلاقات الإنسانية، ويشجع الإبداع، ويسعى نحو التطوير، ويتعامل مع المشكلات بحكمة وعدل وإنصاف.
بيئة فاعلة: ذات مناخ تعليمي ممتع، وتجهيزات متميزة ومتكاملة، وتقنية شبكية معلوماتية، وقيم تحقق السلامة والأمان تلتزم بالمعايير التربوية وفق أفضل المواصفات.
التحدي الرابع: التسارع التكنولوجي
يجتاح عالم اليوم ثورة جديدة هي مزيج من التقدم التكنولوجي المذهل، والثورة المعلوماتية الفائقة، وهذه الثورة تتميز بكونها ذات طبيعة اقتحامية وتحويلية، أي أنها تقتحم المجتمعات سواء أكانت بحاجة إليها، أم غير راغبة فيها، وذلك من خلال وسائل الاتصال. وغالباً ما تكون التكنولوجيا الأحدث أحسن أداءً، وأصغر حجماً، وأخف وزناً، وأكثر تقدماً وتعقيداً من سابقتها. كما أن المعرفة والمعلومات اللازمة لإنتاجها أكثر كثافة، وتتطلب ارتفاعاً متزايداً للقدرات البشرية من علماء ومطورين وتقنيين. وفي الوقت الذي يواجه فيه العالم عدة أزمات، يواجه كذلك تقدماً علمياً وتكنولوجياً هائلاً أدى إلى بزوغ ثورة في البحث العلمي وأدواته ومجالاته، مما كان له أثر ملموس على عمليتي التعليم والتعلم من خلال انعكاساته التربوية والتي نلخصها في:
1- تطور التربية في كل من مفهومها ومحتواها وطرقها وأساليبها وأدواتها، مما جعلها علماً قائماً بذاته، تتخذ البحث العلمي أسلوباً وأداة رئيسة لتطورها، وبالتالي أصبح العمل التربوي لا يقتصر فقط على نقل المعلومات –التي تقادمت مع الزمن- من جيل إلى جيل، بل شملت مهمة التربية استخدام الطرق والأساليب التي تمكن الفرد من اكتساب المعرفة بالاعتماد على نشاطه الذاتي.
2- تطور المستحدثات في مجال التكنولوجيا التربوية، وازدادت أهمية تكنولوجيا التعليم، وبخاصة الحديثة منها في عمليتي التعليم والتعلم الذي شمل الأجهزة والمعدات، التي يمكن أن يستفاد منها بعد أن ظهرت فائدتها بوضوح في مؤسسات المجتمع الصناعية والتجارية، وبعد أن دخلت هذه الأجهزة البيوت وأصبحت جزءاً فعالاً في حياة الناس، وما صاحب ذلك من تطور في العملية التعليمية كاستخدام الكمبيوتر وشبكة الإنترنت، وما تتميز به من سرعة وسهولة وصول المعلومات وتبادلها، وضمان انتشارها، وتحقيق أهداف التربية لكونها أداة المجتمع لتحقيق التنمية.
3- ظهور أنماط وسياسات جديدة للتعليم كالتعليم المفتوح، والتعليم من بعد، والتكوين المستمر، وكما يظهر في المبيان التالي، فإن التعليم الإلكتروني سوف يبلغ حجم الاستثمار فيه حوالي 52,6 مليار دولار في عام 2010.
4- أدى هذا التقدم التكنولوجي الكبير إلى مضاعفة مسؤوليات المربين الذين أصبح لزاماً عليهم التعامل مع كل هذا التطور العلمي التكنولوجي الهائل. ولتحقيق هذا، أصبح المربي في سباق مع الزمن، ومن هنا نبع احتياجه الشديد لاستخدام تكنولوجيا التعليم الحديثة، التي سوف يوظفها ضمن النظام التعليمي الشامل لتحقيق أهدافه التربوية التي يرمي إليها وتحقيقها في أقصر وقت، وبأفضل السبل، وبأقل جهد.
5- ظهور نظريات وأفكار جديدة متطورة، ومن بينها أفكار تناولت شكل التعليم في المستقبل، واحتمال تغير دور المدرسة كمبنى يضم التلاميذ.
6- الثورة المعلوماتية أحدثت تغييرات خطيرة في العالم، حيث اندثرث مهن وتخصصات قديمة ونشأت أخرى جديدة، ومن هنا يأتي تطوير التعليم كضرورة حتمية لكونه الأداة القادرة على تطوير إمكانات الفرد بما يمكنه من التفاعل مع تكنولوجيا العصر.
لقد شهدت البشرية عدة تحولات على المستوى التقني، فتحولت من النموذج الزراعي إلى النموذج الصناعي، ومن النموذج الصناعي إلى النموذج التقني، ومن النموذج التقني إلى النموذج المعلوماتي، وتتطلب مرحلة الانتقال من نموذج إلى نموذج -المنطقة المحايدة بين نموذجين- قدرة فائقة من المؤسسات والمنظمات على التخطيط والتنفيذ والتقويم، وتكوين الخطط الطارئة لإحداث تعديلات في الأهداف والبرامج والوسائط والوسائل، وقد تتغير هذه الخطط جذرياً نظراً لتعدد وتنوع المتغيرات مدار البحث والمقالة والتكييف. وفي المرحلة البينية بين النموذج التقني والنموذج المعلوماتي تزداد الأهمية والحاجة إلى صياغة كلية شاملة في مجال الرؤية، ومجالا الأساليب والأدوات، ومعبراً يحتاج لقدرة وخبرة في استشراف المستقبل ومتغيراته والعمل على إدارة التغير خلال هذه المرحلة بشكل يهيئ الانتقال للنموذج المعرفي، كما يظهر ذلك في الشكل التالي:
فالفترة الانتقالية -نطاق الحياد- تواجه أي منظومة في انتقالها وتكيفها بين نسقين -لكل منهما منظوره وأدواته ومرتكزاته الاقتصادية ونظمه الاجتماعية- عدداً من الصعوبات والتحديات التي تتطلب تحركا تتكامل أبعاده في ضوء رؤية دقيقة، وخطة شاملة بعيدة المدى، وبرامج وأدوات متطورة ومواكبة لطبيعة العصر وتحولاته، وفي ظل هذا التحول، فإن الأمر يتطلب تطوير فكر الإنسان وقدراته ومحيطه التقني والمادي بكل عناصره ومحاور.
وليست التربية الإسلامية بمعزل عن التأثير سواء في المرحلة الانتقالية أو في المرحلة الثابتة للنموذج المعرفي واستقراره. فمع هذا التسارع التكنولوجي، ظهرت أنماط تعليمية لم تكن معلومة من قبل مثل التعليم عن بعد، الذي انطوى على صيغ وطرائق لم تكن معلومة من قبل، بل امتدت يد التسارع التكنولوجي لتطول الخبرات التعليمية ومنها طرق التدريس، ومثالاً على ذلك أصبح لتكنولوجيا الصورة الأثر الفاعل كوسيلة تعليمية. وهذا التسارع التكنولوجي يمثل تحدياً للتربية الإسلامية، فكيف إذن للتربية الإسلامية أن تُعد ذلك المتعلم المتعدد المهارات والقدرات؟ وكيف لها أن تمكنه من إتقان التقنية؟ وكيف لها أن تورثه وعيا وثقافة عالمية وإقليمية ومحلية؟ ولكي تتحق الإجابة على مثل هذه التساؤلات السابقة، يجب على القائمين على أمر التربية الإسلامية أن يطوروا المناهج، والخبرات التعليمية، وأساليب التقويم، وإعداد معلم التربية الإسلامية، بالإضافة إلى وضع محتوى مواد التربية الإسلامية في صورة مرنة جذابة تتلاءم و التسارع التكنولوجي الحادث.
فكما كانت الفائدة كبيرة من التقدم التكنولوجي الحادث في ميدان التربية، فكذلك سوف يكون لهذا التقدم آثاراً سلبية على مستقبل التربية في القرن الحادي والعشرين. فعلى سبيل المثال، سيكون خمس السكان العاملين فحسب كافيا للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي، ولن تكون ثمة حاجة إلى أيد عاملة تزيد عن هذا القدر الكافي لإنتاج جميع السلع، أي سيكون خمس العالم فقط هم القادرون على العثور على أعمال تمكن أجورها من سد احتياجاتهم، أما الباقون وهم ثمانون في المائة يشكلون الطبقة العريضة الدنيا من المجتمع الجديد. سيصبحون فائضين عن الحاجة، يواجهون المصاعب الجمة والمشكلات المتفاقمة، وما من سبيل أمامهم إلى العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال البر. وإذا كانت التربية الإسلامية مطالبة بالسير وفق تكنولوجيا العصر، وتلبية احتياجات المتعلمين في تطوير الأهداف من خلال مراعاة حاجات الطلاب ومستلزمات المجتمع، وكذلك تطوير محتوى مواد التربية الإسلامية، وتجديد أساليب التقويم، واستحداث خبرات تعليمية موافقة لتكنولوجيا العصر، فعليها أيضاً أن تعمل على إيجاد حلول للمشاكل الناجمة عن التسارع التكنولوجي، كمشكلة البطالة كما ذُكر في سابقا، وتقليل عدد الساعات التي يعطيها الناشئة لشاشة الحاسب الآلي، واستثمار مفاتيح لوحة الكومبيوتر في تطوير عناصر المنهج الخمس.
التحدي الخامس: الانفجار المعرفي
يبدو واضحاً اليوم أننا إزاء شكل جديد من التطور المجتمعي، يعتمد في سيطرته ونفوذه على المعرفة عموماً والعلمية منها بشكل خاص، حيث يتعاظم فيه دور صناعة المعلومات بوصفها الركيزة الرئيسة في بناء الاقتصاديات الحديثة، وتتعزز فيه مكانة الأنشطة المعرفية لتتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيراً في منظومة الإنتاج الاجتماعي.
فعالم اليوم يعيش انفجاراً معرفياً غير مسبوق، بحيث لا يمر يوم دون أن تحمل لنا المجلات والصحافة المتخصصة أنباء عن اكتشافات واختراعات جديدة، ويكفي أن نعرف أنه في عام 1500 عندما اخترع -جوتنبرج- المطبعة كان إنتاج أوروبا لا يتجاوز ألف عنوان سنوياً، في حين يزيد الآن عن ألف عنوان يومياً، وإن 90% من العلماء الذين أنجبتهم البشرية خلال كامل تاريخها يعيشون الآن بيننا، وتشير المعطيات إلى أن البشرية قد راكمت في العقدين الأخيرين من المعارف مقدار ما راكمته طوال آلاف السنين السابقة التي شكّلت تاريخ الحضارة الإنسانية.
وعند رصد الاتجاهات المستقبلية للظواهر المختلفة في العالم، نجدها تتمثل في أربعة أقسام رئيسة؛ ظواهر مستمرة الصعود، وظواهر تصعد ثم تبدأ في الهبوط، وظواهر تتصاعد ثم تبقى ثابتة، وظواهر تهبط ثم تصعد. وتراكم المعرفة من النوع الأول أي من الظواهر التي تتصاعد بشكل مستمر، وكذلك تتصاعد الظواهر الفرعية المرتبطة بها، مثل تزايد المداخل للوصول للمعلومة، كما يتزايد التفاعل بين الظواهر الفرعية، كما يوضحه الشكل التالي:
كان تركيز التعليم في الماضي على تحصيل المعلومات واستيعابها واستظهارها، وكان ذلك ممكناً منذ بضعة عقود، فالنمو في حجم المعرفة فيما مضى بطيء نسبياً، وبالتالي كان تزايد حجم المعرفة يسير بمعدل بطيء، وقد تأثرت معدلات نمو المعرفة -على مر العصور- بالتطور الذي حدث في وسائل نشر المعلومات ونقلها. ومع قدوم تكنولوجيا الإلكترونيات أصبح هناك عديد من الوسائل التي تبث المعلومات في الأجواء المحيطة بالكرة الأرضية من راديو وتلفاز ومحطات فضائية وشبكة الإنترنت، وكل ذلك أدى إلى التزايد السريع في انتشار المعلومات. إن العصر الذي نعيش فيه الآن يشهد ازدياداً في صنع المعرفة بمعدلات لم يسبق لها مثيل، الأمر الذي جعل الإحاطة بما يستجد من معلومات في ميادين التخصص أمراً يكاد يكون مستبعداً، إلا من خلال المتابعة لما يستجد في ميدان التخصص من خلال التدريب المستمر الذي يعد من أهم السبل لمتابعة تلك التطورات، وللانفجار المعرفي مظاهر أهمها، النمو المتضاعف للمعرفة، وزيادة حجم المعرفة، واستحداث تفرعات وتصنيفات جديدة للمعرفة، وظهور مجالات تكنولوجية جديدة كالكمبيوتر وشبكة الإنترنت، وتضاعف جهود البحث العلمي وزيادة الإقبال عليه، وتزايد أعداد العلماء والمهندسين.
وهذا الانفجار المعرفي له انعكاساته التربوية نلخصها في أن مادة التربية ومحتواها سوف تكون سريعة التغير، وأن المناهج الدراسية لا يمكن أن تظل ثابتة مستقرة، وأن سرعة تغير المعرفة تجعل من الصعب علي الفرد أن يلاحقها وأن يضبطها، ولذلك يحاول أن يتكيف معها، وأن تكيف الفرد مع المعرفة المتفجرة لن يتأتى بحفظه للمعلومات واستظهارها، ولكن بإتقانه طريقة الوصول إلى المعرفة، لأن كيفية التعلم أهم من مادته، كما أن تخزين المعلومات واستدعاءها أصبحت له أوعية إلكترونية كجهاز الكمبيوتر. إن طرق وتكنولوجيا التعليم لابد وأن تتأثر بالمستحدثات التكنولوجية التي صاحبت الانفجار المعرفي، ولابد من استحداث تكنولوجيا تعليمية ترفع من الكفاءة الإنتاجية للمعلم وتمكنه من تحقيق المزيد من الأهداف التعليمية في وقت أقل. فالانفجار المعرفي الذي يشهده عصرنا، وبخاصة في مجالي العلوم والتكنولوجيا يفرض على المعلم أن يظل على اتصال دائم بالمستجدات في مجال تخصصه، ومن ثم فإن عدم مواكبة المعلم لهذه المستجدات يجعله غير قادر على مواجهة التحديات لأنه في هذه الحالة سوف يزود الطلاب بمعلومات ومعارف أصبحت قديمة، ويكسبهم مهارات غير قابلة للانتقال والتطبيق في المستـقبل المجهول الذي يواجهونه. وفي ضوء هذا التحدي -الانفجار المعرفي- يجد القائمون على أمر التربية الإسلامية أنفسهم مجبرين على استحداث طرق وأساليب تزيد من سبل الإتقان في الوصول للمعرفة، وتطوير طرق التعلم، وتبني طرق ووسائل تكنولوجيا متقدمة تُعين المعلم والمتعلم على تحقيق الأهداف التعليمية بمستوى درجة الإحسان، وفي وقت أقل.
التحدي السادس: المقاصد التربوية والاجتهاد التربوي الجماعي
لقد استوعب علماء التربية المسلمين المقاصد التربوية النظرية النابعة من أصول التربية الإسلامية، وصاغوا غاياتهم التربوية في ضوئها، والبارز فيما خلّفوه من إنتاجات، وكتابات تربوية هو قدرتهم على تكييف غايات التربية مع متطلبات الزمان والمكان، فابن سحنون في القيروان، هو غير ابن عبد البر، وابن حزم، والقاضي عياض في الأندلس والمغرب، وهؤلاء غير الإمام الغزالي في المشرق، وإن كان الجميع ينهل من حوض واحد. ولكن المتفق عليه، والمُقر من قبل جميع العلماء هو إقرارهم بضرورة إعداد المناهج التعليمية بما يتناسب مع متطلبات العصر ومتغيراته وحاجاته. وتعكس النماذج التالية هذا التنوع المحكوم بالخلفية الفكرية لكل عالم ومتغيرات عصره السياسية والاجتماعية. فالعلم عند أبي عمر يوسف بن عبد البرّ -الفقيه المحدّث المالكي القرطبي المولود سنة 368هـ والذي عاصر زمن الطوائف الأول بعد سقوط الخلافة وقبل عصر المرابطين- يهدف إلى إرضاء الله وخشيته، وحسن العلاقة به في العبادة، وتكوين علاقة طيبة بعباده، كما يهدف إلى نفع المسلمين في دنياهم عقليا ووجدانيا وماديا. فالرجل ركز على الإخلاص ونبذ حظوظ النفس لما عايشه من خلافات ذاتية عصفت بمصير الخلافة الإسلامية بالأندلس، ولا سبيل لإعادة العزة للمسلمين إلا بهذا المسلك الذي ينبغي أن تُربّى عليه الأجيال.
وحدد بدر الدين بن جماعة (ت: 733هـ) الفقيه الشافعي الشامي الذي عاصر فترة أهوال سقوط بغداد في يد المغول والصراع مع الصليبيّين، المقاصد العامة لطلب العلم في: فهم الدين ومعرفة أصوله وأحكامه وقواعده، وحمل العلم عن السلف، الدفاع عن الدين وعلومه الصحيحة ضد التحريف والانتحال والتأويل. ولا شك أن حملات التشكيك التي بثّها الصليبيون والفرق المنحرفة عن الإسلام وتاريخه وحضارته وثقافته اقتضت أن يركز الرجل في المقاصد الكبرى للتعليم على تجديد فهم الدين وفق رؤية سلفية متأصلة والدفاع عن الدين الذي هُددَت حياضه وتداعت عليه الأمم. وقد جعل ابن سينا (ت: 427هـ) مقصد التربية والتعليم في تنمية القوة المدركة، ولَفَت النظر إلى أهمية الحكمة فقسمها إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: ما يرتبط بأخلاق المرء وأعماله حتى تكون حياته الأولى والأخرى سعيدة.
ثانياً: يرتبط بتدبير المرء لمنزله المشترك بينه وبين زوجه وولده ومملوكه حتى تكون حاله مؤدّية إلى كسب السعادة.
ثالثاً: أصناف السياسات والرئاسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والرديئة، فيعرف وجه استيفاء كل واحد منها وعلة زواله.
وأما الأثر الفلسفي في رؤية ابن سينا لمقاصد التربية والتعليم فينبُع من اطلاعه على مقومات تكوين الإنسان في الفلسفة اليونانية بوجه خاص، والسعي إلى تكييف هذه الرؤية مع التصور الإسلامي، مما يجعل الإنسان قادرًا على تدبير شؤون الحياة الفردية والجماعية مع الحرص على كسب السعادة في الدارين. ومن القراءة المُعمقة في الفكر التربوي عند ابن خلدون -عالم الاجتماع والعمران المولود سنة 732هـ بتونس، والذي جاب أقطار المغرب والأندلس زمن بني الأحمر، واحتكّ بنصارى قشتالة، وعاصر ضعف المسلمين وصراعاتهم بالأندلس- يُستنتج أن المقاصد التربوية عند الرجل تتمثل في: تربية الملكات، واكتساب الصناعة، والبناء الفكري السليم، وهي المقومات الكبرى للعمران، وهي نظرة بعيدة تلخّص علاج مشكلات الانحطاط في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، والتي تحتاج إلى فهم السنن الكونية في قيام الحضارات وسقوطها، وهي رؤية يسعى ابن خلدون إلى ترسيخها لدى الأجيال الصاعدة، لأن تغيير مصير ومسار الأمم يبدأ بتغيير التصورات وتنمية المهارات والقدرات. وبذلك يظهر جليًّا أن هذه الآراء التربوية التي أنتجها الفقيه والمحدث والفيلسوف وعالم الاجتماع في ظروف مختلفة لم تخرج عن المقاصد الكبرى للتربية في الإسلام، لكنها أصبحت أكثر إجرائية حينما حكمتها الخلفية الفكرية لكل عالم، والبيئة المعرفية والسياسية التي حكمت عصره، ورؤيته لسبل التصحيح والتغيير التي ستقوم بها الأجيال بعده، وهي الفكرة المركزية التي يمكن استنتاجها والاستفادة منها لتكييف مقاصدنا التربوية المعاصرة مع متطلبات الواقع ومتغيراته وحاجاته.
ووفق ما سبق عرضه من أهمية الاجتهاد المقاصدي التربوي الذي سلكه علماء التربية المسلمين، نلفت النظر إلى أن بناء وتخطيط مناهج التعليم في بلاد العالم الإسلامي يجب أن ترتكز على أصلين هما، مرجعية الإسلام، والاجتهاد المقاصدي، وأن يكون استلهام التجارب الإنسانية التي لا تتعارض مع ذلك الأصلين. وكذلك من خلال اجتهاد العلماء يستنتج أن بناء المناهج ينبغي أن يكون وفق أسس أربعة:
أولاً: الأساس الفلسفي، الذي ينبني على الخصوصيات العقائدية للأمة ونظرتها إلى الكون والحياة والمصير باعتبارها محدِّدات رئيسة لتكوين رؤية الإنسان لمبررات وجوده وحياته ومصيره.
ثانياً: الأساس الاجتماعي، ويرتكز من جهة على الإمكانات المتاحة في كل مجتمع لتنفيذ نظام متجدد للتربية والتكوين، ومن جهة ثانية حاجاته التنموية على المدى القصير والمتوسط.
ثالثاً: الأساس النفسي، ويرتكز على ضرورة مراعاة النموّ النفسي والإدراكي للمتعلمين في مختلف الأعمار، ومسايرة تطوره لتوسيع دائرة التفاعل مع برامج ومناهج التعليم في انسجام وتناغم، مما يُنتج دافعية أكبر نحو التعلم.
ورابعاً: الأساس المعرفي، الذي يراعي طبيعة المفاهيم التي تُقدَّم للتلاميذ، وكيفية إسهامهم في بنائها على شكل خرائط معرفية متسلسلة بأسلوب منهجي لا يقتصر فيه دور المتعلم على التلقّي، بقدر ما يشارك في بناء المعرفة وفق نسق يمكنه من الأدوات المعرفية الضرورية للتنمية، ويؤهّله لإدراك المقاصد الكبرى للعلم الموصلة إلى معرفة الخالق وتقديره حق قدره.
إن هذا الأسلوب في بناء الفكر التربوي المقاصدي لدى علماء التربية السابقين يوضح الاتجاه التربوي المرغوب فيه، والذي يعتبر أن صياغة أهداف المنهج التعليمي التربوي إنما يكون في ضوء أحكام الإسلام ومقاصدها، وفي سياق الغايات المتوافق عليها في المجتمع المسلم. وفي هذا السياق العام نقرأ دعاء إبراهيم عليه السلام حين قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:129]. فكانت المقاصد الكبرى لإخراج الأمة للناس ملخصة في:
أولاً: المعرفة، ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِك وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾، فالآيات تشمل كتاب الله المنظور والمسطور بما يَضُمان من سائر العلوم، والحكمة هي كل مهارات التواصل والخطاب والتصرف التي تمكن الفرد والجماعة من إقناع الناس بالحق وللحق.
ثانياً: التزكية ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، وهي تَمازُج الإيمان بالوجدان، يدلّ على ذلك تمسك الفرد بمنظومة القيَم الأخلاقية الفردية والجماعية في أرقى مستوياتها، فقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:9-10].
ومن ثم نجد الربط بين طلب المعرفة، ومهارة القراءة والكتابة، والتربية الإيمانية، في أوّل آية نزلت من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقْ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:1-5]. فالقراءة والربّ والقلم الواردة في الآية واضحة في الدلالة على المراد. ومن منهج القرآن والسنة المزج بين هذه المقاصد في كل الأحوال التي يتحدث فيها عن الإنسان فصلا ووصلا.
وهناك صورتان بارزتان في القرآن الكريم توضحان العلاقة بين القيم والمعرفة انفصاماً واتصالاً، أُولاهما صورة قارون الذي اغترّ بعلمه حين انفصل عن القيم، فقال مزهوا بعد التمكّن المعرفي الذي أكسبه أموالا ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾[القصص:78]، قال تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص:81]. لأن العلم في هذه الحال ما زاد قارونَ إلا علواً واستكباراً، إذ هو في هذه الحال علم مدمِّر. وصورة ذي القرنين الذي نجح في بناء سد من زُبَر الحديد وقِطر النحاس، وجعله حائلا بين إفساد يأجوج ومأجوج والقوم الصالحين من الموحّدين ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف:97]، وحين عجب الناس من صنيعه وعلمه قال: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾[الكهف:98]. فربط المعرفة بقيم التوحيد وإجلال العالم الجليل، فكان صنيعه حائلا بين الحق والباطل إلى أن يشاء الله.
وفي ضوء ما سبق عرضه لنماذج من إنتاج علماء التربية السابقين، ومدى التزامهم بقواعد أحكام الإسلام، والوعي التام بمقاصد التربية، ومن عرض الأسس الأربعة -التي يقوم عليها بناء المناهج- المُستقاة من إنتاج هؤلاء الأعلام، ومن ذكر للنموذجين المذكورين في القرآن الكريم في قصتي قارون وذو القرنين، نرى لزاماً على واضعي المناهج التربوية/التعليمية في البلدان الإسلامية أن يحدّدوا أهداف المناهج الآنية والمستقبلية وفق مقاصد التربية في الإسلام. وأما استلهام تجارب الآخرين، إنما تكون بمراجعتها على الأصلين السابق ذكرهما، أحكام الإسلام، ومقاصد الشارع.
وبهذا الفهم التربوي المقاصدي تمكن علماء التربية الأوائل من تلبية متطلبات المتعلمين التربوية والتعليمية وبما يتلاءم مع حاجات مجتمعاتهم، فلم يضق التشريع الإسلامي بتلك الحاجات، ولم يُقصر في الاستجابة لمقتضيات التقدم الحادث في سالف العصور، فتحقيق البعد المقاصدي في تربية اليوم والغد يلزمه اجتهاد تربوي جماعي. فكما أن الاجتهادات الفردية -في مجال التشريع- لم تبق طريقاً ينشرح إليه النفس أو يطمئن لها القلب في أحكام القضايا المتجددة، فإنه من الأليق والأجدى أن يكون الاعتماد على الاجتهاد الجماعي، ولقد أُدرك ذلك في مجال التشريع، فتكونت هيئات للاجتهاد الجماعي، وكان منها المتقيد بالمذاهب، وكان منها المتحرر منها.
وكذلك مستقبل التربية الإسلامية، فهو يحتاج إلى جهد جماعي -هيئات الاجتهاد الجماعي التربوي- من قبل المتخصصين في فروع العلم المختلفة، كرجال القانون، والأطباء، والمهندسين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس وغير ذلك، إلى جانب التربويين في التخصصات التربوية المختلفة. وهذه المجامع التربوية تعمل على تحقيق عدة أهداف منها، التخلص من النظرة الأحادية التي تغلب في بعض الأحيان على بحوث الأفراد، وذلك من خلال قيام البحث التربوي على عاتق فريق بحثي مكون من عدد من الباحثين ذو التخصصات المختلفة، وعلى أن يتولى كل عضو في الفريق جزئية من المقالة محل البحث. وأن تقوم هذه المجامع التربوية باستدعاء رؤية الإسلام في القضايا التربوية المستحدثة بدراستها بطريقة جماعية، وجمع التراث التربوي الإسلامي، وما صدر عن العلماء وتبويبه، كما أن على هذه المجامع التربوية أن تسعى في التعرف على تجارب الآخر، والعمل على الاستفادة منها.
فمع تطور الحياة وتعقدها، ومع الانفجار المعرفي، والتسارع في إنتاج التكنولوجيا، ومع قصر المسافات من خلال وسائل الاتصال المتقدمة، أصبح العمل التربوي الجماعي أساساً للنهضة التربوية المبتغاة، وأصبح في عالمنا المعاصر لا وجود للباحث المنفرد أو للمجموعة الباحثة المنعزلة. ولا يكفي في العمل التربوي الجمعي وجود المراجع والمعامل والدوريات، بل لابد من اللقاء المباشر والاحتكاك الفكري بين العلماء والمفكرين والتربويين، ليُعرض كل بحث على الآخرين مباشرة، فالرحلة في طلب العلم عند القدماء -رغم مشقة السفر، وطول المسافات- قد حققت صورة من العمل الجمعي، فكان طالب العلم يعرض على العلماء ما عنده، أي يضع ما يملكه من علم على محك المواجهة والنقد، ثم يقوم ببناء الجديد ليعرضه ثانية.
وش اسوي