مفهوم تعويم العملة
عندما تُعوم العملة النقدية فإن سعر صرفها سيصبح محررًا من تدخل البنك المركزي والسياسة النقدية للدولة، أي أن الدولة لن تتدخل في تحديد سعر الصرف مباشرة وإنما من يتحكم في سعره هو سوق العملات، أي أن العرض والطلب هو من سيحدد سعر العملة الوطنية للدولة مقابل العملات الأجنبية الأخرى، وبالتالي يُسمى هذا النوع من العملات بالعملات العائمة، وهي أكثر العملات تعرضًا لعدم الاستقرار نتيجة تقلبات العديد من الأسعار سنذكرها لاحقًا، إذ أن التذبذب في أسعارها قد يحدث يوميًا عدة مرات، أما تاريخيًا فثمة من دافعوا عن تعويم العملات أهمهم منظر المدرسة النقدية الاقتصادية “ميلتون فريدمان”، وقالوا أن تعويم العملات وتحريرها سيعكس حقيقة الاقتصاد بصورة أفضل من نمو، تضخم، نسبة أسعار الفائدة والرصيد التجاري، مما سيؤدي إلى توازن الدول التي عملتها عائمة مع الدول الآخرى في علاقتها التجارية والحسابات تلقائيًا، وأن هذه النظرة تتوافق اليوم مع الجديد في الاقتصاد الذي يدعو إلى تحرير الأسعار من أسعار فائدة، وأسعار السلع والخدمات، وأسعار الأجور، وأسعار صرف العملات الأجنبية، واعتبار أن السوق هو من يحددها دون تدخل أو ضغط من الجهات الرسمية في الدول، الأمر الذي يضمن حالة من التوازن التي تُسمى في الاقتصاد بنقطة التوازن، ولكن الواقع أثبت عكس ما تنادي به المدرسة النقدية في الاقتصاد.
واعتبر البعض أن إيمانهم بكفاءة الأسواق أشبه بالإيمان الأعمى، وأن عدم وجود جهاز رقابي على الأسعار قد يؤدي إلى كوارث اقتصادية تودي باقتصاديات الدول، وخير مثال ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة الرهن العقاري، فمن نادوا بتحرير العملات وجدوا في ذلك العديد من المزايا الاقتصادية التي تعود على الدول بالفائدة سنأتي على ذكرها لاحقًا، ووقعت اتفاقية “بريتون وودز” في عام 1971م التي تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية فيها رسميًا عن الالتزام الذي كانت قد تعهدت به قبل ذلك التاريخ بربط جميع دولاراتها بما يقابل قيمته بالذهب، وقد التزمت به في اتفاقية عام 1944م بأن كل 35 دولارًا أمريكيًا يمكن أن يصرف بأوقية من الذهب، وبمجرد تخلي الولايات المتحدة عن هذا الالتزام انهارات قيمة الدولار مقابل الذهب، ولم تتمكن أي دولة في العالم من السيطرة على أسعار صرف عملاتها مقابل بعضها البعض، الأمر الذي أدى للكثير من هذه الدول إلى ربط سعر صرف عملاتها بالدولار بغض النظر عن ربطه بالذهب أو عدمه، وطبعًا عُد ذلك سيطرة أمريكية جديدة في اقتصاد هذه الدول ونتائجها الاقتصادية.
أشكال تعويم العملة
يوجد في الواقع الاقتصادي شكلين من تعويم العملات، هما كالآتي :
- التعويم الحر أو الخالص: وهو ترك قوى العرض والطلب بصورة مطلقة في تحديد سعر صرف العملة لدولة ما، وبالتالي فإن مرور الوقت وبناءً على مؤشرات اقتصادية لأي دولة وتداول عملتها في الأسواق سيتحدد بتفاعل قوى العرض والطلب، إذ يكون تدخل الدولة في هذا الشكل من تعويم العملة فقط في عمليات تأثيرية تُسرع من التغير في هذه الأسعار، وبالتالي فإن أكثر الدول توجهًا لهذا الشكل هي الدول الصناعية التي تمتلك رأس مال صناعي ضخم؛ كالجنيه الاسترليني والفرنك السويسري والدولار الأمريكي وغيرهم،
- التعويم المُدار أو الموجَّه: تترك الدولة الحرية في تحديد سعر صرف عملتها لآلية العرض والطلب كما في الشكل الأول، ولكن يكون للبنك المركزي تدخلًا في توجية أو إدارة سعر الصرف وفقًا لتوجهاتها الاقتصادية مقابل أسعار العملات الأجنبية الأخرى، إذ تتدخل الدولة من خلال بنكها المركزي في أمر كهذا في حال وجدت فجوة بين قوى العرض والطلب في أسواق صرف العملات أو أي تطور يحصل على أسعار صرف العملات الأخرى المماثلة لعملتها، وقد تتبع بعض الدول الرأسمالية هذا النهج من تعويم العملات، لا سيما الدول النامية التي تربط عملتها بالعملات الأجنبية للدول الرأسمالية الكبرى؛ كالجنيه الاسترليني، أو الفرنك الفرنسي، أو الدولار الأمريكي.
الآثار الاقتصادية المترتبة على تعويم العملة
تفترض الدول التي تعوم عملتها إلى أن ثمة آثار اقتصادية قد تعود بالفائدة على اقتصادها عمومًا، وفي نفس الوقت قد يترك آثارًا سلبية لا يمكن لهذا الدول السيطرة عليها، أما أهم المحاور التي يؤثر عليها تعويم العملات سواء برفع قيمة النقد المحلي للدولة أو خفضه في الدول هي: النمو الاقتصادي والتجارة الخارجية والأسعار، وفيما يأتي توضيحًا لذلك:
- الحالة التي تترفع فيها العملة مقابل العملات الأخرى: يؤدي ذلك كأول ردة فعل على ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الدولة، وهذا أمر مرتبط بالاستيراد والتصدير مباشرة، لا سيما التصدير كون أسعار السلع المحلية سيكون سعرها مرتفع بالنسبة للمستودرين، أما الواردات فتزداد بارتفاع سعر العملة المحلية؛ وذلك لأن أسعار السلع الأجنبية بالنسبة للمستوردين المحليين منخفضة، مما يؤدي لتباطؤ في النمو الاقتصادي، لوجود منافسة كبيرة بين السلع المحلية غير المدعومة في هذه الحالة مع السلع الأجنبية التي تدعهما، وما ينتج عن ذلك من بطالة وخلل في الميزان التجاري، وتحديدًا ميزان المدفوعات بسبب خروج رأس المال من الدولة لدول أخرى أكثر جذبًا للمستثمرين، فالمستثمر يحوّل عملة بلده المرتفعة في قيمتها لوحدات أكثر في دول أخرى.
- الحالة التي تنخفض فيها العملة مقابل العملات الأجنبية الأخرى: نتائجها باختصار عكس ما يحدث في حال ارتفاع العملة لهذه الدولة، ولكن الاختلاف في قدرة الدولة على تحمل أي من الحالتين، فالدول الاقتصادية تستطيع التحكم غير المباشر من خلال مؤشراتها الاقتصادية الجيدة، فحال الدول النامية بالتأكيد سيكون صعبًا في استقرار اقتصادها سواء برفع عملتها أو خفضه.