وش اسوي: محطة الحجاز في مدينة دمشق
في مدينة دمشق… وبالتحديد في نهاية شارع سعد الله الجابري.. الجزء الجنوبي من ساحة الحِجاز، يقع جزء مهم من ذاكرة الدمشقيين وصلة الوصل إلى أقدس المدن الإسلامة: محطَّة القنوات المعروفة بـ “محطَّة الحِجاز.
تعد محطة الحجاز شاهداً على مراحل مهمة من تاريخ سوريا، حيث كانت تنقل وفود الحجيج من دمشق وكذلك التجار والمسافرين والبضائع إلى الجزيرة العربية، وقد تلقى مبنى المحطة عناية معمارية خاصة جعلته من المباني الأثرية المميزة في وسط مدينة دمشق، لِتتحوّل فيما بعد إلى محطَّة تستخدم القطار السياحي لتنطلق منها القطارات باتجاهات عدة بين دمشق ومصايفها العريقة بعد تعطيلها من قبل لورانس العرب عام 1918.
ولدت فكرة هذا الخط الحديدي لأول مرة عام 1864م ليحلّ بديلا عن طريق القوافل القديم الذي كانت تستغرق عبره رحلة الحج 40 يوماً للوصول للأراضي المقدسة وللأهمية الكبيرة لمدينة دمشق كونها منطلق لحملات الحج إذ كانت تتوافد إلى دمشق من دول آسيا الوسطى عشرات الوفود استعدادا لمحمل الحج الدمشقي الذي ينطلق من دمشق إلى المدينة ومكة في الجزيرة العربية، لنتعرف معا إلى تفاصيل بناء هذه المحطة وتاريخها.
في عام 1864م، قام المهندس الأميركي زيمبل بتقديم أوَّل مخطّط للمشروع الذي سيمتد من مدينة إسطنبول إلى المدينة المُنوّرة، لكنّه لم يتحقّق بسبب التكلفة العالية.
وحين تولَّى السلطان عبد الحميد الثاني الحُكم قرر بناء خط السكك الحديدية من إسطنبول إلى الحجاز حتى لو كان الأمر صعبا ومكلفا وذلك لضرورة تأكيد الوحدة الإسلامية ونفوذ الخلافة العثمانية، قوبل القرار بفرح في العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى نظر إليه الأوروبيون على أنه مشروع يستحيل تحقيقه، فكيف يمكن إيجاد المال اللازم لبناء السكك الحديدية في وقت كانت فيه الإمبراطورية تمر بمرحلة صعبة؟ فقد قدرت التكلفة الإجمالية للمشروع بأربعة ملايين ليرة عثمانية (أي قرابة 570 كيلو من الذهب) وهو مبلغ يقترب من خمس ميزانية الدولة العثمانية في ذلك الوقت.

كانت الإمبراطورية تعاني عجزا في موازنتها، ولم تتمكن من دفع رواتب موظفي الدولة في وقتها، وبدأت حملة في أنحاء البلاد جميعها لجمع التبرعات وقدم السلطان العثماني والأسرة الحاكمة ورجال الدولة البارزين وحتى أبناء الشعب مبالغ كبيرة، لكن التبرعات لم تكن تكفي لبناء السكك الحديدية، وعندئذ جاء الإنقاذ من العالم الإسلامي، حيث بدأ المسلمون الذين يعيشون خارج الأراضي العثمانية في تقديم تبرعات مالية كبيرة من خلال القنصليات العثمانية، وتسابقت الأمة الإسلامية في التبرع لهذا المشروع من المغرب إلى مصر ومن الهند وجنوب أفريقيا إلى كازان عاصمة جمهورية تتارستان الحالية، وقد كانت جميعها محتلة من قبل الأوروبيين، وتبرع خديوي مصر، وشاه إيران ونظام الملك في الهند وتحولت حملة التبرع إلى مشروع فريد للوحدة الإسلامية والولاء للخلافة، وصنعت ميداليات منحت للمتبرعين من أجل المشروع.
تأسست لجنة من قبل السلطان لبناء خط السكك الحديدية، واستوردت بعض مواد التشييد من أوروبا والولايات المتحدة، وشارك آلاف الجنود وعمال البناء المحليون والمهندسون والفنيون العثمانيون في تصميم المشروع. بدأت المحطة أولى خطواتها بِفتح سكَّة قطار دمشق – درعا عام 1900، وبعدها بثلاث سنوات تمّ إيصال الخط من درعا إلى عمان لِيصل إلى معان في العام 1904، وإلى مدائن صالح في الجزيرة في العام 1906، وفي النهاية وصلت سكة حديد الحجاز إلى المدينة المنورة وافتتحت بحفل في عام 1908، وكلف الخط الذي بلغ طوله 1464 كيلو مترا ثلاثة ملايين ليرة عثمانية (قرابة 430 كيلو غرام من الذهب) وكان هذا المبلغ أقل بكثير من تكلفة خطوط السكك الحديدية الأخرى التي بنتها الشركات الأوروبية في أراضي الدولة العثمانية.
كان القطار عبارة عن عربة كبيرة تمثل ردهة للقطار، وثلاث عربات للركاب، وعربة رابعة مخصصة للصلاة. كان القطار يسير بسرعة تتراوح بين 40-60 كم في الساعة، وهو ما يعد معدلا جيدا للغاية في ذلك الوقت، ولم يكن القطار يتوقف إلا للصلاة والتزود بالوقود، فبينما كان الركاب يؤدون الصلاة في الصحراء، كانت الجمال تجلب المياه إلى القطار الذي وصل بعد ثلاثة أيام إلى المدنية المنورة.
عندما انتهى تشييد سكة حديد الحجاز، عين البدو لحمايتها، وأدرجوا في جدول الرواتب، كما درب كثير من الفنيين من أجل الصيانة. نالت الإمبراطورية العثمانية والخليفة احتراما كبيرا، وتجددت ثقة المسلمين بأنفسهم. طلب مسلمو الهند تمديد سكك حديد الحجاز إلى الهند عبر بغداد، وأعلنوا استعدادهم للقيام بدورهم في بناء الخط الجديد.
وبعد افتتاح سكة حديد الحجاز بدأ تبادل البضائع وانتقال الركاب يوميا، وفي موسم الحج خصصت ثلاث قطارات للخدمة بين دمشق والمدينة، وخلال الموسم كانت تذكرة سفر الذهاب فقط كافية لرحلة الذهاب والعودة، وفي المواسم الدينية والمولد النبوي قدمت للمسافرين رحلات أرخص إلى المدينة المنورة، كما خصصت عربة للعائلات للسفر بأريحية.
خلال الحرب العالمية الأولى استخدمت سكة حديد الحجاز في نقل القوات العسكرية، وبفضل هذا الخط حافظت المدينة على تواصلها مع إسطنبول، وقاومت حتى عام 1919، وكانت آخر رحلة على خط سكك حديد الحجاز لجلب الآثار الإسلامية المقدسة من المدينة المنورة. ومع توقيع الهدنة في عام 1918 فقدت الإمبراطورية العثمانية السيطرة على معظم أجزاء الخط، وبعد سقوط الجبهة السورية قصف البريطانيون الخط حتى خربوه، والأدهى من ذلك أن الجاسوس المعروف لورانس أعطى قطعة من الذهب لقطاع الطرق البدو على كل قضيب أو فلنك يفكك ويدمر على السكك الحديدية من معان إلى المدينة المنورة.
أما بالنسبة للبناء ومكوناته فتتكوَّن المحطة معمارياً من كتلتين مُتناظرتين تُحيط البهو من الاتجاهين، وهي غرف استخدمت سابقاً كمراكز لِقَطْع التذاكر، والطابق العلوي لإدارة خط الحِجاز.
ويتكوَّن مدخلها من درجٍ بازلتي يحمل أعمدة رخامية مُطلَّة على شارع سعدالله الجابري يعلوها صالون استقبال، وتستخدم الجهة الخلفية للمحطة، للقطارات التي كانت تذهب باتجاه المدينة المُنوّرة والأردن كقطارات البضائع بين المدن التي تقع على مسار الخط.
أما في القرن العشرين فكان لهذه المحطة تاريخ عريق في الذاكرة الدمشقية في حيث كانت تنطلق منها القطارات في اتجاهات مختلفة منها قطار المصايف الشهير الذي يصل إلى المصايف الدمشقية العريقة وأعالي الجبال المحيطة بدمشق وإلى سرغايا ويمر القطار في مناطق جميلة جدا في ريف دمشق من الربوة إلى دُمَّر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة ومضايا وبقين ومصايف وادي بردى وإطلالة سهل الزبداني وصولا إلى مصيف الزبداني الشهير، ولقطار المصايف حيز كبير في الذاكرة الدمشقية حيث السيران والرحلات السياحية الشعبية بكل جمالياتها وتقاليدها السورية والدمشقية العريقة.